غلاسكو - أنطون الخوري
الØياة 16/09/2004
ألوان الخري٠تنتشر أمامك على دروب جبال اسكتلندا الغربية. مروج نبات الخـَلـَنج Heather تمتزج بغابات البلوط المنØدرة من المرتÙعات باتجاه البØيرات الباردة ÙÙŠ الأودية. أشجار يتغيّر لون أوراقها من الأصÙر إلى الأØمر البرتقالي مع انعكاس أشعة الشمس ساعة الغروب على منظر Ùريد تلÙÙ‡ Ø±ÙŠØ§Ø Ø®Ø±ÙŠÙية باردة.
هذا هو المشهد الذي تراه من هضبة "كونيك" ÙÙŠ بداية الطريق الوعرة التي تربط شمال غلاسكو، كبرى مدن اسكتلندا، بمدينة Ùورت وليامز الصغيرة ÙÙŠ أقصى شمال الجزر البريطانية Øيث تنعدم السياØØ©ØŒ Øسب المÙهوم التجاري. إذ إن الشمس بالكاد تظهر هنا، وإن ظهرت Ùان الطقس يبقى بارداً جداً، Øتى ÙÙŠ عز أيام الØر ÙÙŠ الجنوب. وسبب البرد المستمر انتشار مسطØات الماء الشهيرة المعروÙØ© باسم لوخ loch Øسب اللغة الاسكتلندية ÙÙŠ معظم الأودية، تربطها اقنية مائية Ùوق الأرض وتØتها Ùتبدو كتل الأرض Øولك وكأنها جزر صغيرة تكسوها الجبال، وليس مناطق جبلية تخترقها البØيرات.
الطبيعة هنا قاسية ÙÙŠ Ùصل الشتاء. Ùالمطر المنهمر، رذاذاً أو بغزارة، يسود الموقÙ. ونادراً ما تشهد المنطقة طقساً جاÙاً مشمساً يستمر لأكثر من يوم كامل. Ùتضاريس اسكتلندا تتسع جنوباً وتتقلص كلما تØركت شمالاً وترتÙع جبالها إلى آلا٠الأمتار. اما Ø§Ù„Ø±ÙŠØ§Ø Ùمصدرها المØيط الأطلسي من الغرب، وبØر الشمال من الشرق، ناهيك عن Ø±ÙŠØ§Ø Ø§Ù„Ù‚Ø·Ø¨ الشمالي المتجهة جنوباً: مزيج ÙŒ Ùتاك من الهواء البارد والبØيرات والجبال الشاهقة وكتل الضباب العائم والضوء الخاÙت يميـّز هذه المنطقة من اسكتلندا.
تضاريس الأرض الوعرة بطبيعتها القاسية جذبت السكان لقرون خلت، وها هي اليوم تجذبهم إليها كالمغناطيس لممارسة رياضة المشي التي تØولت إلى ولع وشغ٠بالطبيعة بØد ذاتها!
والمشي هنا ليس لمئات الأمتار للتنزه، إنما لمساÙØ© مئة واثنين وخمسين كيلومتراً ÙÙŠ أودية وسهول وعلى ضÙا٠بØيرات تأخذ الزائر إلى عالم سØري. وتستغرق رØلة المشي هذه ما بين ستة أو سبعة أيام من السير الجاد لمدة ØªØªØ±Ø£ÙˆØ Ø¨ÙŠÙ† تسع ساعات واثنتي عشرة ساعة يومياً. الأمر يبدو صعباً للغاية أو مستØيلاً بالنسبة إلى كثيرين لأنه يتطلب لياقة بدنية وقدرة على تØمل الصعاب الجسدية التي تصل Ø£Øيانا إلى Øد العذاب وهذا دÙع بعض الواÙدين الجدد للسير على هضاب اسكتلندا الغربية إلى التذمر والقول بسخرية إن الرØلة هي تدريب مكث٠لكوماندوس Ù…Øتملين!
لكن الØقيقة تناقض ذلك إذ إن جمال المنطقة الÙريد يـÙنسيك أي تعب أو إرهاق ويدÙعك إلى المثابرة. Ùالمناظر Øولك تتغير وتتØول إلى لوØات دراماتيكية تنقلك إلى عالم آخر أشبه بمشاهد طبيعية خلابة من عالم ثلاثي الأبعاد غير Øقيقي، وانت تق٠ÙÙŠ وسطه. Ùالعزلة تامة هنا، وبالكاد تصاد٠أي قروي أو راع٠على الدروب. لا ترى سوى مجموعات من السائرين المهتمين بهذه الرياضة والمهتمين باكتشا٠مناطق نائية لم تمسها يد العمران. تراهم ينتشرون بالمئات على الطرقات التي شقتها الأقدام على مر العصور، تØلق Ùوقهم طيور مهاجرة تتجه جنوباً.
الانطلاق من ضاØية ميلغاي ÙÙŠ شمال غلاسكو Øيث الأرض المنبسطة تتØول إلى مرتÙعات خضراء تدريجياً ثم هضاب تØيط بك من الجهات الأربع. قرية واØدة أو اثنتان بعد عشر ساعات مشي Øيث تمضي الليل ÙÙŠ بيت Ø¥Øدى العائلات التي Øوّلت بعض غر٠منازلها لاستضاÙØ© Ù…Øبي المشي مقابل مبلغ مقبول، تØصل بموجبه على وجبة Ø¥Ùطار أيضاً.
اليوم الثاني ينقلك نزولاً إلى مناطق تقع تØت مستوى Ø³Ø·Ø Ø§Ù„Ø¨Øيرات وتنتشر Ùيها المزارع . هنا تتغير أنواع النباتات والأزهار وتÙاجئك Øيوانات الأيل التي ترعى ÙÙŠ المروج... أما اليوم الثالث Ùهو أطول أيام الرØلة إذ عليك السير لمدة اثنتي عشرة ساعة بسرعة معتدلة Ùوق هضاب تلÙها الرياØØŒ مروراً بسهول خصبة يخترقها خط مهجور لسكة الØديد.
نهاية الطريق التي شقتها الأقدام على مدى قرون من الزمن تصل بك إلى Ùندق معزول ÙˆØيد يسمى "كينغز هاوس" Kings house Øيث كان أمراء العائلة الملكة يمضون الليل أثناء رØلات الصيد. ومنه يتراءى لك جبل "بن لوموند" الشاهق بقمته التي تكللها بقايا ثلوج الشتاء الماضي وتلÙها سØب منخÙضة.
الأرض تزداد وعورة ÙÙŠ اليوم الرابع: إذ عليك أن تتسلق ما هو معرو٠بـ"درج الشيطان" أو الهضبة التي ترتÙع إلى علو خمسمائة وخمسين متراً بزاوية Øادة وطرق متعرجة شديدة الانØدار تكسوها نباتات شوكية ÙˆØجارة تتدØرج عليك بين الÙينة الأخرى كلما تخطاك Ø£Øدهم . السير صعوداً يجعل أي متسلق يلهث بشدة مع وصوله إلى المئة متر الأولى... Ùكي٠تصل إلى قمة الهضبة؟ مجموعات تجلس هنا وهناك تØتسي القهوة أو الشاي وتشجع "مجندي المشي" ممن ينوون الوصول إلى القمة... كثيرون يتراجعون ويعودون أدراجهم إلى طريق صغير، ينتظرون الØاÙلة التي تمر ثلاث مرات يومياً لتنقلهم إلى نقطة الاستراØØ© المقبلة.
شعور بالإنجاز ينتابك مع تصببك بالعرق عند الوصول إلى القمة Øيث عليك أن تÙكر بالهبوط. لكن النزلة مريØØ© على رغم رذاذ المطر. وتهبط إلى مساÙØ© مئتي وخمسين متراً Ùقط بين Øقول التÙØ§Ø Øيث تصل إلى بلدة تيندرام...
وتتعايش أنقاض منازل وأديرة ومزارع مع النباتات البرية التي تكسو بقايا الجدران، وتشير إلى إن الجنس البشري تØمل قساوة العوامل وتأقلم معها ÙÙŠ السابق على هذه الهضاب الوعرة... كما إن قطعان البقر الوØشي الاسكتلندي تÙاجئك بين الÙينة والأخرى وهي ØªØ³Ø±Ø ØºÙŠØ± عابئة بالÙضوليين Øولها.
الأيام الأخيرة من الرØلة تأخذك إلى غابات أرز وشربين وخزانات مياه طبيعية وضÙا٠سد شيد لتوليد الكهرباء وقرى متوسطة الØجم انتعشت مع اكتشا٠الالومنيوم Ùيها على مراØÙ„ خلال القرن الماضي. لكن المناجم أقÙلت قبل سنوات ÙˆØªÙ‚Ù ÙƒØ¬Ø±Ø ÙÙŠ بطون الجبال والأودية..
المÙاجأة الأخيرة قبل عودتك إلى المدينة هي ظهور جبل "بن ناÙيس" Ben Nevis أعلى جبل ÙÙŠ الجزر البريطانية، إلى الشرق من مدينة Ùورت وليامز. طريق واØدة تؤدي إليه: الشجعان يتسلقونه، والأقل شجاعة يلتÙون Øوله إلى اقرب مطعم أو مقهى ÙÙŠ الضاØية الجنوبية من المدينة Øيث تنتشر ياÙطات تهنئ الناجØين بعبور سلسلة جبال غرب اسكتلندا. وهنا تشتري قمصاناً وقبعات وأكواباً للقهوة عليها شعارات المنطقة لتذكرك بعد سنوات برØلة العذاب التي ميزتها طبيعة خلابة تتØدى الكلمات.
المشي ÙÙŠ هذه الجبال يتعدى Øيز الرياضة إلى الولع بالطبيعة والشغ٠ÙÙŠ البقاء ÙÙŠ الهواء الطلق لأكبر عدد ممكن من ساعات النهار مهما كانت Øال الطقس. المهم ÙÙŠ الأمر إن تجري الرØلة بين نيسان (ابريل) وأيلول (سبتمبر) Øين يطول النهار ويتقلص عدد ساعات الليل وتخ٠غزارة المطر الشتوي والثلوج... والأهم هو عدم تعرض Ù…Øب هذه الرياضة إلى لسعات البعوض الأخضر المØلي المسمى"ميدجيز" الذي ينشط Ùوق المستنقعات وضÙا٠البØيرات والأنهر طيلة Ùصل الربيع ويترك على جلد الضØية لسعات قاسية تتطلب Ø£Øيانا عناية طبية.
سبعة أيام يعتبرها كثيرون من أيام العمر وبعضهم الآخر يقول إنها أقسى من البقاء ÙÙŠ معتقلات عسكرية... الأمر الراسخ هو أن ذكرى هذه المغامرة الÙريدة يبقى ÙÙŠ ذهنك، ذكرى تØيك٠صوراً تلامس عالماً خيالياً وتدÙعك مجدداً إلى العودة إلى غرب اسكتلندا لاكتشاÙها بعمق أكبر، مهما قست عوامل الطبيعة. |