العدد 38
زيارة المقابر
سياØØ© المتاØ٠المÙتوØØ©
إنه عنوان غريب لموضوع غريب يدعو إلى الدهشة والتساؤل!
وقبل البدء ÙÙŠ قراءته، أرجو من القارئ الكريم أن يتوق٠ويتناول ورقة وقلما ويدوّن ما يدور ÙÙŠ ذهنه من خواطر يثيرها عنوان هذا المقال.
هل أنت جاهز لخوضه!!
نبدأ هذا الموضوع من علاقة القبور بالتاريخ الإنساني، Øيث أن البشرية عندما تبØØ« عن تاريخها والØضارات التي مرت عبر العصور Ùإنها غالباً ما تجد الأرقام الطينية أو الØجرية أو المخطوطات والأختام، وأدوات ومقتنيات ولوازم الØياة المختلÙØ© التي كانت تستعمل وقت ذاك، قريبة من القبور والمداÙن، وأØياناً كثيرة داخلها، Øسب الثقاÙØ© والعادات السائدة لمختل٠الشعوب، والØضارات التي تعاقبت عليها.
وبين جميع هذه الأشياء التاريخية Ùإن القبور والمداÙÙ† تبقى الجزء الأكثر صلة بتاريخ وجغراÙية المكان وسكانه ÙÙŠ تلك الØقبة من الزمن، وهي الأكثر تأثيرا من الناØية النÙسية والعاطÙية للمختصين من باØثين وعلماء ومؤرخين، ÙˆÙ„Ù„Ø³ÙŠØ§Ø ÙˆØ¹Ø§Ù…Ø© الناس على السواء. كي٠لا ÙˆÙÙŠ طياتها يسكن الأسلاÙ.
لقد استقطبت هذه المواقع الأثرية آلا٠العلماء والباØثين، وعددا هائلا من العمال لسبر أغوار الماضي، وخصص الكثير من الدول مبالغ طائلة لبرامج تنقيب إستمرت لعقود طويلة من الزمن، ولازالت مستمرة إلى يومنا هذا، وتكش٠سنوياً المزيد من الأسرار والكنوز التي تزيد معرÙØ© الإنسانية بجذورها.
ونظرا لقيمتها الإنسانية والتاريخية والمعمارية والÙنية والرمزية تØوّل العديد من تلك المقابر إلى أهم مواقع التراث الإنساني العالمي كمقبرة مكلي ÙÙŠ الباكستان، أو إهرامات مصر، التي Øصلت على جائزة منظمة السياØØ© العالمية لعام 2007 لأÙضل عنصر جذب سياØÙŠ عالمي، أو تاج Ù…ØÙ„ الذي Ø£ØµØ¨Ø Ø±Ù…Ø²Ø§ للØب والوÙاء.
Ùلا غرابة إذن أن تخصص أية دولة بعد ذلك الملايين، إن لم تكن المليارات، ÙÙŠ استكشا٠وترميم المقابر ÙÙŠ بلدانها، لعلها تجلب Ø§Ù„Ø³ÙŠØ§Ø Ø§Ù„Ø°ÙŠÙ† تستهويهم مثل هذه المعالم، او Øتى Ø§Ù„Ø³ÙŠØ§Ø Ø§Ù„Ø°ÙŠÙ† لم تكن تلك الوجهات مقصدهم الرئيسي، لكن يمكن إدراجها ضمن برنامج سياØتهم Ùتثري سÙرتهم.
تجارب ومشاهدات
من خلال تجاربي ÙÙŠ السÙر على مدى ستين عاماً، اطلعت على العديد من المقابر والمداÙÙ† والمراقد والأضرØØ©ØŒ بدءا من زيارة قبر رسولنا الكريم ومقبرة البقيع ÙÙŠ المدينة المنوّرة، Ùˆ مرورا بـقبور الأئمة والأولياء ÙÙŠ مناطق مختلÙØ© من العالم والتي ÙŠØج إليها المسلمون، وكذلك مقابر أخرى ÙÙŠ العالم. وأود أن أذكر بعض هذه المشاهدات:
- مقبرة وادي السلام ÙÙŠ مدينة النج٠الأشرÙ: يعود تاريخها لأكثر من 1400 عام تقريبا، وتعد من أهم المقابر ÙÙŠ العالم، Ùهي الأكبر من Øيث الØجم. ووادي السلام ليس مقبرة النج٠أو العراق ÙØسب بل يدÙÙ† Ùيه أهالي الكثير من البلدان كإيران والهند والباكستان وأÙغانستان والكويت ولبنان وغيرها. لذا Ùهي تستقطب الأموات والزوار من مختل٠هذه الدول. تعتبر هذه المقبرة بقعة مباركة Øيث تضمّ مرقد النبيين هود ÙˆØµØ§Ù„Ø (عليهما السلام)ØŒ كما تضمّ قبور عدد كبير من الأولياء الصالØين والعلماء الأبرار والمؤمنين الذين دÙنوا هناك منذ أن عÙر٠قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ÙÙŠ النج٠الأشرÙ. وتضم بين جنباتها ملوكا ورؤساء ووزراء وعامة الناس. لقد باتت هذه المقبرة تشكل بØÙ‚ تاريخ العراق والأØداث التي مرت Ùيه من خلال معرÙØ© الØقبة التي دÙÙ† Ùيها الموتى وأسباب الوÙاة، Ùهناك عراق الطاعون، وعراق الÙيضان، وعراق Øروب النظام السابق، وعراق العمليات الإرهابية...وغيره.
- مدائن ØµØ§Ù„Ø ÙÙŠ المملكة العربية السعودية: زرتها مطلع هذا العام تلبية لدعوة كريمة من قبل سÙير المملكة ÙÙŠ لندن مع ÙˆÙد بريطاني من الكتاب والإعلاميين السياØيين لأجل زيارة أبرز المواقع السياØية والØضارية والطبيعية هناك.
سÙكنت مدائن ØµØ§Ù„Ø Ù…Ù† قبل الثموديين ÙÙŠ منتص٠الألÙية الرابعة قبل الميلاد، ومن بعدهم أقوام أخرى كالأنباط، وتعتبر من أقدم الآثار ÙÙŠ الجزيرة العربية. وهي تضم ما يزيد عن 120 قبرا عائليا Ù…ØÙورا ÙÙŠ الصخور، ويسمى بعضها بـ"القصور" لجمالها الأخاذ وبديع صنع من Ù†Øتها. كما أنها تضم كمية هائلة من النقوش الثمودية والنبطية التي تنتظر من ÙŠÙÙƒ طلاسمها. وقد أعلنت اليونسكو عام 2008 مدائن ØµØ§Ù„Ø Ù…ÙˆÙ‚Ø¹Ø§ للتراث العالمي، وبذلك ÙŠØµØ¨Ø Ø£ÙˆÙ„ موقع مقابر تهتم به السعودية لاستقطاب Ø§Ù„Ø³ÙŠØ§Ø ÙˆÙŠØ«Ù…Ø± ذلك بانضمامه إلى قائمة مواقع التراث العالمي، وهو الأول من نوعه ÙÙŠ السعودية ضمن هذه القائمة.
- مقبرة نورمندي على السواØÙ„ الÙرنسية: لقد قمت بسÙرة بواسطة Ø¥Øدى المكاتب السياØية إلى منطقة النورمندي ومنطقة اللوار، Ùشاهدت هناك مقابر جنود الØÙ„Ùاء الذين ساهموا ÙÙŠ تØرير Ùرنسا ÙÙŠ الØرب العالمية الثانية عن طريق بØر المانش. وقام مرشدنا السياØÙŠ بتعريÙنا بالمكان وتاريخه.
- مقبرة روما الأثرية: عندما قمت بسÙرة سياØية داخل روما كان من جملة ما زرناه مقبرة روما، وموقعها تØت مدينة روما القديمة، Øيث رأيت Ùيها العجب العجاب لكثرة ممراتها تØت الأرض، ولعلو ارتÙاعها الذي يتجاوز العشرة أمتار. وقد اØتوت صÙو٠القبور طابقا بعد آخر، لايبعد الواØد منها عن الآخر إلا بضع سنتمترات، ولم تغب صورتها عن ذاكرتي رغم مضي ما يقارب الخمسين سنة على زيارتي لها.
زيارات متÙرّقة
وزرت العديد من المقابر من خلال التنقّل بالسيارات السياØية ÙÙŠ المدن، أوالتجوّل ÙÙŠ طرقها للإطلاع على معالمها. وكان المرشدون السياØيون الذين برÙقتنا لايÙوّتون Ùرصة Ø´Ø±Ø Ù…Ø¹Ø§Ù„Ù… وتاريخ قبورها وذكر أسماء مشاهير من دÙÙ† Ùيها. وكانت مناظر الأشجار والزهور المنسقة بعناية ÙÙŠ هذه الØدائق تثير إعجابي ومخيلتي.
كما أن زيارة الكنائس وما Ùيها من قبور ومجسمات منØوتة للتعري٠بصاØب القبر توÙر الكثير من المعلومات، Øيث أنها تØوي جثمان وتراث كل من عمل Ùيها من القساوسة Øسب مراتبهم، وخاصة ÙÙŠ الكنائس الكاثوليكية مثل الÙاتيكان ودوموميلانو ودوموكولون ونورتدام ÙÙŠ قلب باريس، والمئات الأخرى منها.
يضا٠إلى ذلك التماثيل واللوØات الجدارية التي تؤرخ للأشخاص وأسمائهم وتتزين بها ساØات المدن والمواقع، هي تذكّر بأصØابها، مثلها مثل القبور.
هذا قليل من كثير مما شاهدته ÙÙŠ مختل٠دول العالم، ومعظم هذه المواقع Ø£ØتÙظ بصورها إلى يومنا هذا.
Ùوائد الزيارة
ومن خلال ما ورد من مشاهدات أعلاه ÙŠØªØ¶Ø Ø£Ù† زيارة المقابر ودواÙع وأسباب تلك الزيارة، تنطوي على العديد من الجوانب والآÙاق التي ينبغي الإنتباه إليها من أجل استثمارها للأغراض السياØية، نذكر هنا أهمها:
الجوانب الإيمانية والإنسانية
اØتÙظ المسلمون بمواقع وأسماء من دÙنوا من أئمتهم والصØابة الذين جاهدوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ØŒ وكذلك التابعين من الأئمة والأولياء الصالØين، Øيث نرى أضرØتهم ومزاراتهم ممتدة ÙÙŠ معظم بقاع المعمورة، وقد شيدت على أجمل وصÙØŒ ونمت وتوسعت Øولها المدن. وبعدما كانت قبورهم بسيطة ÙÙŠ أراض قاØلة تراها أصبØت مزارات تستقطب الزوار أو Ø§Ù„Ø³ÙŠØ§Ø Ù…Ù† مختل٠بقاع المعمورة.
لقد أعطى الإسلام أهمية كبرى للقيم الإيمانية التي تتجسم ÙÙŠ تاريخ Øياة الصØابة والأئمة والأولياء الصالØين، وقد تناقلت الأجيال أقوالهم وسيرة Øياتهم واعتنت بقبورهم. والدليل على ذلك أن مقبرة البقيع لاتزال معروÙØ© بمقبرة الأئمة والصØابة، والأسماء مدوّنة Øتى بعد أن دمرت ومسØت بسبب تÙسيرات اجتهادية من بعض رجال الدين التي قضت بخلا٠كل علماء المذاهب منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا.
ونØÙ† نناشد علماء المسلمين ÙÙŠ المملكة السعودية بأن يعيدوا النظر ÙÙŠ Ùتاوى تهديم القبور وما نتج عنها من Ø£Øداث مأساوية ÙÙŠ Ø£Ùغانستان والعراق ÙˆÙÙŠ مناطق أخرى من العالم وأدى إلى تشويه صورة الإسلام وتبرأ منها المسلمون عامة.
إن العمل على إعادة بناء البقيع له Ùوائد كبيرة على العالم الإسلامي، أهمها بناء ÙˆØدة المسلمين وإبراز المعالم الإيمانية التي تمثلها سير الصØابة وآل بيت رسول الرØمة. وسو٠تعود هذه الÙوائد وخيراتها على المملكة العربية السعودية وتكون Øقا Øاضنة ليس لبيت الله ÙÙŠ مكة وقبر الرسول الأعظم (ص) ÙÙŠ المدينة Ùقط بل Øاضنة وراعية للنهضة الإسلامية وتاريخ المسلمين بكل طوائÙهم واختلاÙاتهم الÙقهية ÙˆÙتاواهم البناءة، ورÙض كل الÙتاوى التكÙيرية التي تدعوا إلى القتل وتخريب المساجد، والأضرØØ©ØŒ والمزارات، وقبور الأولياء وكل ما يدعوا إلى التÙرقة، لتعطي المثل الأعلى لقيمنا الإسلامية.
الجوانب الإجتماعية والنÙسية
لا شك أن زيارة قبور المعار٠من الدرجة الأولى، من أصدقاء وأقارب تنطوي على العديد من الجوانب التربوية والأخلاقية التي تØمل الكثير من المعاني النÙسية والإجتماعية للزائر، Ùمثل هذا النوع من الزيارة يمثل ÙˆÙاء الشخص لمØبيه وإØياءا لذكراهم، ويمثل تسلية ومواساة وعلاجا Ù†Ùسيا له على Ùراقهم. وبغض النظر عن الطقوس والشعائر التي يمارسها الزائر أثناء الزيارة، والتي تختل٠باختلا٠الثقاÙات والمعتقدات، والتي يتوجب على المشرÙين وإداريي المكان الإلمام بها وتوÙير المواد والأجواء المناسبة للقيام بها، Ùإن النتيجة واØدة، وهي شعور الشخص بالراØØ© النÙسية لقيامه بما يشعر أنه واجب عليه تجاه معارÙÙ‡.
الجوانب الإقتصادية والتخطيطية
تتجلى هذه الجوانب بصورة واضØØ© ÙÙŠ Øقيقة كون العديد من المدن أو قطاعات ضمن هذه المدن خصوصاً ÙÙŠ العالم الإسلامي قد تطور وانتعش اقتصاديا نتيجة وجود Ø¶Ø±ÙŠØ ÙˆÙ…Ø²Ø§Ø± لأØد المؤمنين أو الأئمة، وزيارة الآلا٠بل الملايين لهذه المدينة قاصدين ذلك المزار، Ùهو بالØقيقة ما يعر٠بالأساس الإقتصادي للمدينة، وتتمØور Øوله وتدور ÙÙŠ Ùلكه باقي القطاعات، كالتعليم والخدمات وغيرها ÙÙŠ تلك المدينة، كما هو الØال ÙÙŠ مدينة كربلاء التي يزورها عشرات الملايين على مدار السنة خصوصا ÙÙŠ المناسبات الدينية، وكذلك النج٠والكاظمية والكثير غيرها.
الجوانب التاريخية والثقاÙية
للمقابر أهميتها التاريخية الكبيرة، كما هو الØال ÙÙŠ أهرامات مصر. وبالتأكيد إن أن من يروم زيارة الهرم الأكبر اليوم لا يقصد زيارة قبر الÙرعون خوÙÙˆ بالدرجة الأولى إنما يقصد زيارة تاريخ ÙˆØضارة وثقاÙØ© واد النيل ممثلة بهذا Ø§Ù„ØµØ±Ø Ø§Ù„Ù…Ù‡ÙŠØ¨ØŒ الذي يمكن تشبيهه بآلة الزمن للرجوع لذلك العصر ومعرÙØ© Ø£Øواله.
الجوانب المعمارية والÙنية
تتمتع بعض المقابر بقيمة معمارية ÙˆÙنية ÙˆØرÙية رائعة لايÙجاريها ÙÙŠ الجمال والروعة والإبداع أي متØÙ Ùني معاصر ÙÙŠ العالم، من ذلك مقبرة مكلي ÙÙŠ باكستان والتي جاء وصÙها ÙÙŠ مقال سابق ÙÙŠ هذه المجلة. وتشهد العناصر المعمارية وتÙاصيلها الهندسية، المجسّدة ÙÙŠ الأقواس والأعمدة والشرÙات والممرات وقبب Ø¶Ø±Ø§Ø¦Ø Ø§Ù„Øكام الماضين، بالإمكانات الØرÙية الرائعة للمعماريين القدامى.
أما تاج Ù…ØÙ„ ÙÙŠ الهند Ùهو غني عن التعري٠ÙيكÙÙŠ أن نذكر أن 20 أل٠Ùنان وخطاط ونقاش ومعماري عملوا Ùيه طوال 20 عاما Ù„ÙŠØµØ¨Ø Ù‡Ø°Ø§ Ø§Ù„Ø¶Ø±ÙŠØ Ø±Ù…Ø² الØب والوÙاء ومن معجزات الدنيا السبع الخالدة، ومدرسة للÙنون وملهما للشعر.
إذن ليس من المستغرب بعد هذا أن تكون سياØØ© المقابر هي سياØØ© المتاØ٠التاريخية والÙنية المÙتوØØ©.
والله ولي التوÙيق
|