آفاق السياحة الإسلامية
لطبع الصفحة


العدد 16

في رحاب بيت الله الحرام

وفقت هذا العام لتلبية نداء الحج المبارك بعد سنوات من أدائي الفريضة للمرة الأولى. وقد دعتني هذه المناسبة الكريمة لأن أقف متأملا في مكة المكرمة، والكعبة المشرفة بالخصوص، من حيث التسمية والتاريخ والمراسيم المتعلقة بها.

وقد ورد أن من أسماء الكعبة: البيت العتيق ،الكعبة، البيت الحرام، البيت المعمور، والبيت، وكلها وردت في القرآن الكريم. قال تعالى: )وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ( الحج/29 ØŒ وقال تعالى: )جَعَلَ اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ( المائدة/97ØŒ وقال تعالى: )وَالطُّورِ. ÙˆÙŽÙƒÙØªÙŽØ§Ø¨Ù مَّسْطُورٍ. ÙÙÙŠ رَقٍّ مَّنْشُورٍ. ÙˆÙŽØ§Ù„ْبَيْتِ المَعْمُورِ.( الطور/1-4ØŒ وقال تعالى: )وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً( آل عمران/97.

والكعبة هي قبلة المسلمين جميعاً في صلاتهم أينما وجدوا حول الكرة الأرضية. وإليها يأتون من كل فجٍ عميق لأداء فريضة الحج.

ولرب سائل يسأل: أيهما أقدم وجوداً مكة أم الكعبة؟ والإجابة الحاسمة، بناءً على الآيات الكريمة والنصوص الواردة في أمهات كتب التاريخ، أن الكعبة المشرفة أقدم بيت وأنها عاصرت مقدم التاريخ الإنساني، حيث قال تعالى: )إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ( آل عمران/96، ويقول المفسرون: إن البيت الحرام كان موجوداً قبل هبوط آدم (ع) إلى الأرض، فلما هبط آدم أمره بأن يحج إليه ويطوف حوله حتى لا تتوقف الصلة بين الخالق والمخلوق.

ولما قدم إبراهيم (ع) إلى جزيرة العرب، ليسكن زوجته هاجر وطفله إسماعيل في أرض "مكة المكرمة" دعا الله متضرعا إليه سبحانه أن يجعل هذا البلد آمنا غنيا بالخيرات: )رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ( إبراهيم/37.

وقصة عطش الطفل إسماعيل وسعي أمه للحصول على الماء له، وانبثاق ماء زمزم ليروي عطشهما ولينعم بالخير على مكة المكرمة وما جاورها هي قصة معروفة.

 

ماء زمزم

أول من قدم مكة من القبائل هم قبيلة جُرهم اليمنية، وقد استأذنوا السيدة هاجر صاحبة النبع في حط رحالهم والاستسقاء من مائه فأذنت لهم بشروط، ثم قدمت بعد ذلك قبائل العماليق من اليمن وطلبوا الجواز بمشاركتهم الماء وسكنوا في أعالي الجبال المحيطة بمكة، فاستقرت القبيلتان وسكنتا المنطقة وتعايشا بسلام فترة من الزمن. وقد شبَّ إسماعيل وترعرع وتزوج من جُرهم، وصار يروض الجياد الوحشية ويذللها، وللآن منطقة "أجياد" معروفة بمكة.

وعاد الخليل إبراهيم (ع) ليلتقي بولده الشاب إسماعيل الذي تركه طفلاً، ليبدأ فصولاً جديدة من تاريخ الإيمان والحضارة على أرض المقدسات، فأكمل إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) بناء البيت، )وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( البقرة/127.

أتمّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) بناء البيت ودعا الناس كافةً للحج إليه والتعبد فيه، فكان بيتاً مباركاً، قدسياً، مطهراً، أصطفاه ربّه فأضافه إليه، قال تعالى: )وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِك بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ( الحج/26-27.

فنسب الله تعالى البيت إليه سبحانه، وجعله رمز الإيمان، وموضع تقديس وعبادة، ومحل القصد والحج، وبيت الضيافة والوفادة عليه سبحانه، فالذي يحل في فنائه كأنما يحل في رحاب الله سبحانه، والطائف حول الكعبة كأنما يطوف حول ظل العرش، ويرتفع النداء: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

 

عمارة الكعبة المشرفة

تدل النصوص الموجودة بين أيدينا على أن الكعبة قد بنيت خمس مرات:

أولاً: قيل أن الكعبة المشرفة بنتها الملائكة وأنها عاصرت مطلع التاريخ الإنساني، كما في آل عمران/96.

والثاني: بناء آدم، عندما هبط أمره الله سبحانه وتعالى بأن يحج إليه ويطوف حوله.

والثالث: بناء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) بعد أن اندثر بناؤها، ولم تبق منها إلا القواعد التي غطتها الرمال والحصا. وواضح من الآية127 من سورة البقرة أن إبراهيم لم يضع القواعد التي هي أساس البيت الحرام، وإنما رفع بناءه.

والرابع: بناء قريش في الجاهلية، قبل المبعث النبوي الشريف، حيث أصاب الكعبة حريق صدّع بنيانها، وأوهن حجارتها، فحارت قريش في أمرها، وترددوا في هدمها حتى تقدم الوليد بن المغيرة فاقتلع أول حجارة منها. وشارك النبي (ص) وهو شاب في نقل حجارتها مع الناقلين من بني هاشم، وهو الذي وضع الحجر الأسود في مكانه فاستقر ببركة جهوده بعد أن اختلفت القبائل واحتكموا إلى أول داخل للبيت، فكان صلى الله عليه وآله وسلم أول داخل للكعبة فاتفقوا على تحكيمه، فأشار عليهم بأن يأتوا برداء ذي أربعة أطراف فأعطى كل طرف إلى قبيلة وعند رفع الرداء أخذ بيده الشريفة الحجر الأسود ووضعه في مكانه في قصة ترويها كتب السيرة الشريفة.

والخامس: بناء ابن الزبير، لما أبطأ عبد الله ابن الزبير عن بيعة يزيد ابن معاوية وتخلف وخشي منهم لحق بمكة ليحتمي بالحرم فقرر يزيد إرسال جيش إلى عبد الله ليأتوا به مغلولاً، فجمع ابن الزبير أصحابه، وتحصَّن بهم في المسجد الحرام، وحول الكعبة، ونتيجة لكثرة الخيام حول الكعبة احترقت إحدى الخيام، وكان في ذلك رياح شديدة، والكعبة يومئذ مبنية بناء قريش، مِدْمَاك من ساج، ومِدْمَاك من حجارة من أسفلها إلى أعلاها، وعليها الكسوة، فطارت الرياح بلَهَب النار فاحترقت كسوة الكعبة، واحترق الساج الذي بين البناء، وكان احتراقها يوم السبت لثالث ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، فضعفت جدران الكعبة، حتى إنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها، ففزع لذلك أهل مكة وأهل الشام جميعاً، والحصين بن نمير محاصر ابن الزبير، فأرسل ابن الزبير رجالاً من أهل مكة من قريش وغيرهم، وقالوا لحصين: إن يزيد الذي رفض ابن الزبير مبايعته قد توفي -وكان توفي بعد حريق الكعبة بسبعة وعشرين يوماً- فعلى ماذا نقاتل؟ فرجع بجيشه إلى الشام، وعندها دعا ابن الزبير وجوه الناس وأشرافهم، وشاورهم في هدم الكعبة، فأشار عليه ناس غير كثير بهدمها، وأبى أكثر الناس هدمها، فقال ابن الزبير: والله! ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه، فكيف أرقع بيت الله سبحانه وأنا أنظر إليه ينقض من أعلاه إلى أسفله، حتى إن الحمام ليقع عليه فتتناثر حجارته.

فأقام ابن الزبير أياماً يشاور وينظر ثم أجمع على هدمها، وكان يحب أن يكون هو الذي يرُدُّها على ما قال رسول الله (ص) على قواعد إسماعيل، فهدم ابن الزبير الكعبة وبنى على أساس إبراهيم (عليه السلام) وكانت قريش قد قصرت عن ذلك، وأدخل الحجر في البيت، وجعل لها بابين شرقيًّا وغربيًّا.

 

الكسوة الشريفة

وهي من أهم مظاهر التبجيل والتشريف لبيت الله الحرام، وتذهب بعض المصادر التاريخية إلى أن إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام) أول من كسا الكعبة، ويذهب البعض إلى أن "عدنان" الجد الأعلى لرسول الله (ص) هو أول من كساها.

غير أنه من الثابت تاريخياً أن أول من كساها هو "تبع أبي كرب أسعد" ملك حمير، حين مر عليها آتياً من غزوته ليثرب سنة 220 قبل الهجرة، وقد كساها "الخصف" وتدرج في كسوتها حتى كساها "المعافير" وهي كسوة يمنية، كما كساها "الملاء" وهي كسوة لينة رقيقة وعمل لها باباً ومفتاحاً، تبعه خلفاؤه من بعده فكانوا يكسونها "الوصايل" وهي أثواب حمر مخططة و"العصب" وهي أثواب يمنية يعصب غزلها أي يجمع ويشد المصبوغ منه مع غير المصبوغ فيأتي موشى، و"المسوح" وهي كسوة من الشعر و"الأنطاع" وهي كسوة من الجلد.

بعد ذلك أخذ الأمراء في تقديم الهدايا إليها من الكساوي المختلفة مثل: "مطارف الخز" الخضر والصفر، وهي أثواب من صوف أو شعر بعرض ذراع، و"شقاق الشعر" وهي كساو رقيقة طويلة، وأثواب حريرية تسمى "كرار الخز" و"النمار العراقية" وهي أثواب كانت تصنع للوسائد، و"الحبرات اليمنية" وهي أثواب مخططة، و"الأنماط" وهي بُسط سميكة. وكلما جاءت كسوة طرحت على سابقتها، إلى أن جاء عهد "قصي بن كلاب" ففرض على القبائل رفادة كسوتها سنوياً، واستمرت في بنيه. واستمرت كسوتها إلى يومنا هذا حيث أخذ الملوك والأمراء يتسابقون بكسوتها على أجمل وقت.

               

لماذا سميت الكعبة؟

الكعبة بناء مكعب تقريبا، ولهذا سُمِّيت الكعبة، وزواياها إلى الجهات الأربع، والعرب يسمون الزوايا بالأركان وينسبونها إلى اتجاهاتها، فالركن الشمالي يسمَّى بالركن العراقي، والركن الغربي يسمَّى بالركن الشامي، والقبلي يسمَّى بالركن اليماني، والشرقي يسمَّى الركن الأسود، لأن به الحجر الأسود.

إن كل ما جاء أعلاه ما هو إلا وصف موجز لما جاءت به الآيات الكريمة وكتب التاريخ والتفسير من تعريف بمنزلة هذا البيت: بيت الله العتيق أو الكعبة بأرض مكة المكرمة، حيث جعلها الله قبلة المسلمين يتوجهون نحوها من كل بقعة من بقاع الأرض وولا تصح صلاتهم بدون التوجه الصحيح نحو الكعبة قبلة المسلمين.

ولقد شرّف الله هذا البيت بإبراهيم وآل إبراهيم وبمحمد وآل محمد صلوات الله وسلامه عليهم. ويردد المسلمون في كافة بقاع العالم هذا النداء: اللهم صلي على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم."

وقد جاء إبراهيم الخليل (ع) لتجديد الدعوة إلى عبادة الله  ÙˆØ­Ø¯Ù‡ لا شريك له، ثم ختمت النبوة برسول الله (ص) لتكون هدياً إلى جميع البشر بأمر الله عز وجل حيث أتم نعمته وجعل الإسلام عالمياً قبل أن تعرف كلمة العولمة بأكثر من إلف عام. وقد جعل الله الكعبة في مكة المكرمة مركزاً للأرض لتتوجه إليها البشرية المسلمة من كل ركن من أركان الكرة الأرضية في صلاتها خمس مرات في اليوم على مدار السنة وعلى مدار الكرة الأرضية، أي أن هناك صلاة ومناجات بلغة موحدة، وجمل موحدة، وأداء موحد، وتوجه واحد إلى الله سبحانه وتعالى، وواستمرار للصلة بين سكان الأرض والله سبحانه وتعالى على مدار أجزاء ثواني الساعة بدون توقف أو انقطاع، فأي عولمة بعد هذه العالمية.

وفي الحج تبرز عظمة هذا الدين حيث يأتي الناس من كل بلاد العالم يتساوون بكل شيء: بالإحرامات والمناسك والمواقف أمام الله راجين منه الغفران والرحمة )يأيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقنكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكرمكم عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( الحجرات/13. وكان عدد الواقفين هذه السنة على جبل عرفات يتجاوز المليونين من الحجاج حيث خصصت المملكة السعودية منح تأشيرة الدخول (الفيزة) بنسبة الألف شخص لكل مليون من نفوس أي بلد. ولو أعطت التأشيرات لكل من يرغب في الحج فلربما يصل عدد الراغبين في الحج إلى مئة مليون ما يجعل من المستحيل استيعابهم في المواقع المحددة لمناسك الحج. فأي سياحة بعد هذه السياحة الربانية.

نرجو من الله أن يهدي الجميع إلى الصراط المستقيم.

والحمد لله ربّ العالمين.

Copyright © A S Shakiry and TCPH Ltd.